حروب المعادن: سباق عالمي على الموارد النادرة وتهديدات الصراع العالمي

كتب: أحمد خالد
تُشكل المعادن الاستراتيجية، تلك التي تُعتبر لبنات بناء التكنولوجيا المتقدمة، والأسلحة، وصناعة الطيران، أحد أهم أسباب التوتر الجيوسياسي العالمي، بل وربما تُشكل بذور حرب عالمية ثالثة أو حروب إقليمية عنيفة للسيطرة على مصادر إنتاجها. تُشير الدراسات إلى أن نحو 40 معدنًا تُصنف كمعادن ذات أهمية قصوى للأمن القومي والاقتصاد العالمي، من بينها المعادن الأرضية النادرة، مثل النيكل والنحاس والليثيوم والكوبالت، وهي عناصر أساسية في صناعة الرقائق الإلكترونية وغيرها من التقنيات الحيوية.
الهيمنة الصينية على سوق المعادن
تسيطر الصين على حصة الأسد من إنتاج هذه المعادن، حيث تُهيمن على أكثر من 90% من إنتاج المعادن الأرضية النادرة عالميًا. ففي عام 2021 وحده، بلغ إنتاج الصين حوالي 168 ألف طن، بينما لم يتجاوز إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية 43 ألف طن، لتأتي روسيا في المرتبة الأخيرة بإنتاج ضئيل لا يتجاوز 2.7 ألف طن. هذا التفاوت الهائل في الإنتاج يضع الصين في موقع قوة هائل، ويُشكل تحديًا كبيرًا للدول الأخرى.
يشهد العالم إقبالًا متزايدًا من الدول الكبرى على هذه المعادن، مع توقعات بزيادة هائلة في الطلب على الليثيوم والنحاس، وارتفاع جنوني في الطلب على النيكل (41 ضعفًا) والكوبالت (21 ضعفًا). هذا الوضع يُنذر باندلاع صراعات عسكرية محتملة بين الدول الكبرى، فيما يُطلق عليه البعض “حروب المعادن”.
تفاصيل اتفاق المعادن بين أمريكا وأوكرانيا: فرصة أم مخاطرة؟
في ظل الأزمة الجيوسياسية التي أحدثها الغزو الروسي لأوكرانيا، برزت اتفاقية المعادن بين الولايات المتحدة وأوكرانيا كمحاولة أمريكية لتعزيز التعاون مع كييف في قطاع يُعتبر حجر الزاوية للاقتصاد الحديث والأمن القومي. تسعى الولايات المتحدة، من خلال هذه الاتفاقية، إلى تنويع مصادر توريد المعادن النادرة، والتقليل من الاعتماد على الصين وروسيا. كما تهدف إلى دعم أوكرانيا في استغلال مواردها الطبيعية الهائلة، والتي تُقدر قيمتها بأكثر من 750 مليار دولار، لتمويل عملية إعادة الإعمار بعد الدمار الذي لحق بـ 40% من بنيتها التحتية بسبب الحرب.
تتمتع أوكرانيا بثروات معدنية ضخمة، حيث تُعتبر احتياطياتها من الليثيوم (500 ألف طن) من أكبر الاحتياطيات في أوروبا، كما تُنتج حوالي 20% من التيتانيوم العالمي، وهو معدن أساسي في صناعات الطيران والأسلحة. وتضم أوكرانيا أيضًا عناصر نادرة أخرى مثل النيوديميوم والسيريوم، وهي ضرورية لصناعة البطاريات وتوربينات الرياح، بالإضافة إلى احتياطيات كبيرة من الجرافيت والنيكل، وهي عناصر أساسية في صناعة السيارات الكهربائية.
يتمثل التعاون الأمريكي الأوكراني في عدة محاور، منها توقيع اتفاقيات استكشاف واستخراج، مثل عقد شركة “لايف ستيل” الأمريكية مع الحكومة الأوكرانية لاستخراج الليثيوم في منطقة دونيتسك. كما قدمت الولايات المتحدة دعمًا ماليًا وتقنيًا، بما في ذلك 100 مليون دولار عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لتمويل مشاريع التعدين المستدامة، بالإضافة إلى توفير معدات متطورة لمسح المناطق الملوثة بالألغام، لضمان بيئة تعدين آمنة وفعالة. كما تعمل الولايات المتحدة على إنشاء ممرات نقل آمنة عبر دول أوروبية مثل رومانيا وبولندا، تحت حماية حلف الناتو، لنقل الخامات إلى الأسواق العالمية.
لكن هذا التعاون يواجه تحديات كبيرة، أهمها الوجود الروسي في مناطق استراتيجية مثل كريفيي ريه، التي تحتوي على 50% من احتياطيات الحديد الأوكرانية. كما أن تلوث 30% من الأراضي الأوكرانية بالألغام يُعيق عمليات المسح الجيولوجي، بالإضافة إلى مشكلة الفساد المستشرية في أوكرانيا، حيث تحتل المرتبة 122 عالميًا حسب مؤشر شفافية الفساد لعام 2023.
على الصعيد الجيوسياسي، تتنافس الصين والغرب على موارد أوكرانيا، حيث تقدم الصين عروضًا لتمويل مناجم أوكرانية مقابل الحصول على حصص في الإنتاج، بينما يسعى الغرب، وخاصة الاتحاد الأوروبي، إلى دعم مبادرات “المعادن الخضراء لأوروبا” للحد من الاعتماد على الصين بنسبة 65% بحلول عام 2030. وتهدد روسيا بتعطيل الممرات البحرية في البحر الأسود.
تسعى أوكرانيا لزيادة صادراتها من المعادن النادرة إلى 5 مليارات دولار سنويًا بحلول عام 2030، وقد تعهدت شركات أمريكية باستثمار ما يقارب 2 مليار دولار في قطاع التعدين الأوكراني هذا العام. هذه الاتفاقية، التي ترتكز على إنشاء صندوق استثماري مشترك لإعادة الإعمار، تُظهر رغبة أمريكا في تحويل أوكرانيا إلى منصة رئيسية لسوق المعادن الاستراتيجية، بينما تسعى كييف إلى تحويل مواردها الطبيعية إلى سلاح اقتصادي لإعادة بناء بلدها ومواجهة العدوان الروسي.
تُعتبر هذه الشراكة خطوة جريئة نحو إعادة رسم خريطة النفوذ العالمي في ظل معركة الموارد التي تكتسب أهمية بالغة في عصر التحولات التقنية. يُلاحظ إصرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على توقيع اتفاقية المعادن مع الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي باعتبارها أولوية قصوى، تتجاوز حتى وقف الحرب مع روسيا وتقديم ضمانات أمنية للأوكرانيين.
تايلاند: رقائق إلكترونية في قلب العاصفة
تُعتبر تايوان مركزًا حيويًا في صناعة الرقائق الإلكترونية، مما يجعلها هدفًا رئيسيًا للمطامع الدولية. وعلى الرغم من اعتمادها على استيراد السيليكون من الصين واستراليا، إلا أن تايوان تُنتج 60% من الرقائق الإلكترونية المستخدمة في الاتصالات والأسلحة، مما يُشعل التوتر بين الصين، التي تعتبرها جزءًا لا يتجزأ من أراضيها، والولايات المتحدة التي تخشى من سيطرة بكين على هذا القطاع الحيوي.
تسعى الصين، من خلال فرض قيود اقتصادية على تصدير المعادن الخام، إلى ممارسة ضغوط على تايوان، فيما تُولي الولايات المتحدة اهتمامًا كبيرًا بصناعة الرقائق التايوانية، وتُقدم الدعم لشركات مثل TSMC، وتدرس إمكانية استثمار في التنقيب عن المعادن النادرة في تايوان، لضمان تفوقها التكنولوجي.
يعتمد اقتصاد كل من اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير على واردات الرقائق من تايوان، مما يُثير قلقهما من أي اضطراب في الإمدادات في حال تصاعد النزاع مع الصين.
تحاول الصين عزل تايوان اقتصاديًا، من خلال حجب مشاركتها في اتفاقيات تجارية، و شن حملات عسكرية بحرية، مما يُهدد اقتصاد تايوان الهش الذي يعتمد على واردات تصل إلى 90% من احتياجاته من الطاقة والمعادن الخام.
جمهورية الكونغو الديمقراطية: لعنة الموارد
تُعتبر جمهورية الكونغو الديمقراطية مثالًا صارخًا على “لعنة الموارد” في إفريقيا، حيث تُشكل ثرواتها المعدنية الهائلة ساحة صراع بين القوى المحلية والعالمية. تحتوي الكونغو على حوالي 70% من احتياطيات الكوبالت العالمية، وهو معدن أساسي في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، بالإضافة إلى احتياطيات كبيرة من النحاس والكولتان. هذا يضع الكونغو في موقع حاسم في سلاسل التوريد العالمية، مما يجعلها هدفًا لصراعات لا تنتهي.
تسيطر جماعات مسلحة على جزء كبير من مناجم الكونغو، وتُحقق أرباحًا طائلة من التعدين غير القانوني، في ظل استغلال واسع النطاق للعمالة، بما في ذلك الأطفال. كما تتنافس شركات أجنبية، صينية وغربية، على استغلال هذه الموارد، فيما تُواجه اتهامات بالاستغلال المفرط وتجاهل الانتهاكات الحقوقية.
تداعيات هذا الصراع لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية، بل تمتد إلى آثار إنسانية وبيئية مدمرة، حيث أسفرت النزاعات المسلحة عن ملايين القتلى والمشردين، بالإضافة إلى التلوث البيئي الخطير. تُعتبر موارد الكونغو محورًا أساسيًا في الصراع بين القوى الكبرى، حيث تتنافس الصين والغرب على الهيمنة على سلسلة توريد الكوبالت.
تبرز مبادرات مثل مبادرة التعدين العادل، لكن تطبيقها لا يزال محدودًا. وتعمل قوانين دولية على منع استيراد المعادن من مناطق نزاع، لكن تطبيقها العملي لا يزال ضعيفًا. تُظهر الإحصاءات أن الكونغو تمتلك احتياطيات كوبالت تقدر بـ3.5 مليون طن، وتُحقق عائدات تعدين تصل إلى 4.2 مليار دولار سنويًا، فيما يعاني نحو 73% من سكانها من الفقر المدقع.
تُعتبر الكونغو نموذجًا حيًا للاستعمار الجديد، حيث تُستنزف ثرواتها لتمويل الثورة التكنولوجية العالمية، بينما يدفع شعبها الثمن الباهظ. يُشير المراقبون إلى أن الصراع على المعادن هو صراع على الهيمنة العالمية، مما يُنذر بمخاطر حقيقية على السلام العالمي.