عبدالله حسين يكتب: قراءة من دفتر الذكريات ..

عندما كنت تلميذًا بالمدارسة الإعدادية كانت تجلس أمامي فتاة إسمها ….. ، كنت أجلس في صف جهة المكتب و في الطاولة الأخيرة ، كان الجو باردا ، وقطرات المطر تنزلق على زجاج النافذة ، التفتت إلي وبعد أن تأكدت أن زميلي البدين الذي يجلس بجانبي تغيب في ذلك اليوم ، لأن الزكام عشش في أنفه سألتني بحياء مبالغ فيه وبصوت رقيق لا يكاد يسمع ، هل سبق و تلقيت هدية في حياتك ؟ أجبتها بسرعة دون أن أرجع لأرشيف الذكريات وأتأكد أنه لم يسبق لأي شخص أن أهداني شيئا ، لا لم أتلقى أي هدية من أحد ، في الحقيقة أنا لا أحب الهدايا إلا إن كانت من شخص عزيز فأنا أقبلها برحابة صدر ..

احمرت وجنتاها كعروس يهمس لها زوجها في أذنها بكلمات حتى الجن الأزرق لا يعرفها ، وستظل سرًا حتى نجرب تلك اللحظة الأسطورية لنحتفظ بالسر أيضا جيلاً بعد جيل ونقسم ألا نبوح به ليأكل الفضول قلوب العزاب المساكين ، كثيراً ما سألت نفسي عن ماذا يتهامس الزوجان في ذلك الموقف السخيف ، لكني عجزت عن تخيل الأمر ، تشجعت ….. قليلا وأخرجت من محفظتها الجلدية القديمة هدية مغلفة بورق جريدة صفراء ، وضعتها بسرعة في درج طاولتي وغطت وجهها بكلتا يديها واضعة جبهتها العريضة على الطاولة الخشبية ، بقيت على هذه الحال مدة طويلة ، وبقيت أنا أراقب تحرك أستاذ الرياضيات الأهبل ، أعلم أنه سيقصفني بوابل من الشتائم والشمة تتطاير من بين شفتيه إن اكتشف الأمر أمام أربعين تلميذاً أغلبهم فتيات ، وسأشعر بالمهانة ، إنتظرت حتى فرغ من شرح الدرس وكتابته وأمرنا أن ننقله على كراريسنا ، تلك كانت فرصتي المناسبة لأفتح أول هدية تصلني في حياتي البائسة ، فتحتها بهدوء دون أن أثير أي شوشرة تفاديا للحرج الذي سأسببه لـ ….. المسكينة واتقاء لشر أستاذي الذي لا يسلم منه أحد ، ومثلما يخيب ظن طفل بائس بفعلة جده الذي عاد من الحج ولم يحضر له شيئا ، خاب ظني بهدية ….. رغم حسن نواياها ، كانت الهدية عبارة عن كتيب حصن المسلم برتقالي اللون وكنت أملك في البيت واحداً مثله ، في البداية أصبت بخيبة أمل كبيرة لكني و مع مرور الوقت عرفت أن الهدية لا تقدر بثمن وأن أغلى زجاجة عطر وأفخر ساعة سويسرية الصنع لا تعادل القيمة المعنوية لكتيب حصن المسلم الذي يحتاجه كل شخص منا ، شكرتها كثيراً حتى أني شعرت أنها ندمت على إهداءه لي ، وبدل أن أهديها أنا أيضاً شيئا رمزيا يحافظ على أواصر المودة بيننا ويمتن روابط الصداقة اكتفيت بتقديم حبة علك يابسة عثرت عليها صدفة بالجيب الداخلي لمعطفي الشتوي ، كانت يابسة جدًا ، ولسبب لا أعرفه تغير شكلها من مستطيل إلى شبه منحرف ، قدمتها لها بكل سفالة غير آسف على أسنانها البيضاء الناصعة ، أمسكتها بيدها الصغيرة الناعمة ثم رمقتني بنظرة احتقار ، في آخر الحصة رمت علي ورقة صغيرة مطوية بعناية فتحتها متلهفا ، كنت واثقا أنها وقعت في غرامي ، خصوصاً أن شعري كان كثيف و لم يكن يتساقط حينها ، وأني أرتديت حذاء جديداً لا تنبعث منه أي روائح غير مرحب بها في الأنف ، كنت شبه متأكد أنني على وشك قراءة كلمة أحبك بخط يدها الجميل وأنها سترسم قلبا أحمراً يخترقه سهم في آخره ثلاث قطرات دم ، لكن وللأسف المبرح قرأت هذه العبارة التي خربشت مشاعري المرهفة. ..لا تكلمني مرة ثانية.. وحاول تتناسي مع حدث بيننا !!!!

زر الذهاب إلى الأعلى